لو ننحازُ إلى الحِياد

لو ننحازُ إلى الحِياد

لو ننحازُ إلى الحِياد

 العراق اليوم -

لو ننحازُ إلى الحِياد

سجعان قزي
بقلم : سجعان قزي

رسالةُ لبنان تُحتِّمُ عليه الانحيازَ، إنه وطنُ القلب. ومَوقِعُه يُحتِّم عليه الحيادَ، إنه في قلبِ الأزَمات. والمعادلاتُ الإبداعيّةُ في العِلمِ والفلسفةِ، وحتى في السياسةِ، غَالباً ما تنشأُ مِن مَزْجِ التناقضاتِ أكثر من جَمْعِ المتَشابِهات. أنّى للبنانَ إذَن أنْ يُوَفِّقَ بين رسالتِه التاريخيّةِ ومَوقعِه الجيوسياسي، وبين حماسةِ الانحيازِ وحِكمةِ الحياد؟ 
اعتمادُ الحيادِ استناداً إلى مَنطقِ الأخلاقِ يؤَدي إلى سؤالٍ استطراديٍّ هو: أإغِفالُ مصائب الآخَرين بِحُجّةِ الحيادِ هو عملٌ أخلاقيّ؟ في بدايةِ القرنِ التاسعِ عَشَرَ لَحَظَ بورتاليسPortalis (1746/1807(، أبرزُ واضِعي القانونِ المدنيِّ الفرنسيّ، ضرورةَ أن تُستَكْمَلَ العلمنةُ بـ"أخلاقيّةٍ دينيّة" (morale religieuse) خَشيةَ أن تَقضيَ على القيمِ الروحيّةِ في المجتمعِ الفرنسي. كذا الحيادُ يستقيمُ في لبنانَ بأنْ يرُفَقَ بـ"أخلاقيّةٍ تضامنيّةٍ" مع قضايا حقوقِ الإنسان، وبخاصةٍ في الشرق الأوسط.
مبدأُ الحيادِ لجأَت إليه الشعوبُ بسببِ هزيمةٍ عسكريّةٍ كالنَمسا، أو بسببِ حروبٍ داخليّةٍ كسويسرا، أو بسببِ جِوارِ دولةٍ كبرى تَوسُّعيّةٍ كفِنلندا، وغالباً للأسبابِ الثلاثةِ معاً. بفضلِ حِيادٍ مُتفاوِتِ المستويات، تَفادَت هذه الدولُ الثلاث شَبحَ التقسيمِ أو الضّمِّ إلى دولٍ أخرى. هذه الحالاتُ جميعُها، لاسيّما خطر التقسيمِ، قائمةٌ في لبنان وتَحُثُّنا على التفكيرِ في ما إذا كان الحيادُ يناسِبُ لبنان.
كلبنانيّين، قد نَختلِف على قضايا عديدةٍ، لكنّنا نتّفِق على أنَّ أزَماتِنا وحروبَنا نَشبَت نتيجةَ: 1) خِلافاتِنا الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، 2) وجودِنا في جِوارِ دولٍ طامِعةٍ بأرضِنا، 3) انحيازِنا ـــ عقائديّاً ونِضاليّاً وعسكريّاً ـــ إلى صراعاتِ المحيطَين العربيِّ والإسلاميِّ وحتى الدوَليِّ. وحالَت هذه العناصرُ الثلاثة أيضاً دونَ اتفاقِنا على قواعدَ متينةٍ لِحَلٍّ دائمٍ للأزَماتِ والحروب، فاكتفَينا، على مَضَضٍ، بتسوياتٍ من حناياها فاحَت روائحُ الغَلَبةِ والغُبنِ، وفي طيّاتِها حَمَلت بُذورَ فِتنٍ لاحِقة.
إذا كان هذا المَحْضَرُ صحيحاً، هناك حقيقةٌ ملازِمَةٌ له هي أنَّ منسوبَوَطنيّتِنا لم يُساعِدْنا على تَخَطّي انقسامِنا الطائفيِّ وانحيازِنا إلى الخارج وعلى مَنعِ الآخرين من التَدخُّلِ في شؤونِنا. عدمُ التَصَدّي لهذا الواقعِ اللبنانيِّ يُعَرِّضُ لبنانَ لثلاثةِ احتمالاتٍ أحلاها مُرٌّ: استمرارُ الفتنِ عَبْرَ الأجيال، تقسيمٌ واقعيٌّ أو شرعيٌّ، وسيطرةُ فريقٍ بالقوّةِ على باقي الأفرِقاء. وحاليًّا نعيش هذه الحالات جملةً وتفصيلًا. 
إن كانت ثابتةً أهدافُ الحيادِ: الاستقلالُوالاستقرارُ والحرّية، فمفاهيمُه مُتنوِّعة. ليس الحيادُ صيغةً مُعلَّبةً تَصلُحُ لكلِّ دولةٍ في كلِّ زمانٍ ومكان. هو فكرةٌ سلميّةٌ يُكـيِّـفُها كلُّ شعبٍ وَفْقَ مشاكلِه وأوضاعِه وحاجاتِه. هناك الحيادُ السلبي (passif) تِجاه جميع النزاعاتِ كما اعتمَدتْه سويسرا. وهناك الحياد الناشِط (actif) الذي مارَستْه النمسا، فلعِبت أدواراً سياسيّةً على الصعيدين الأوروبيِّ والدوليِّ لامَسَت حدودَ الانحيازِ أحياناً. وهناك الحيادُ الظرفيُّ (conjoncturel) الذي تَتّخِذه دولةٌ حِيالَ نِزاعٍ مُحدَّدٍ على غِرارِ ما فعلت السويد في الحربين الأولى والثانية. وهناك الحيادُ المراقَبُ (surveillé) الذي فَرضَ على فنلندا مسايرةَ الإتحادِ السوفياتيّ، الملاصِقِ لها، طَوالَ فترةِ الحربِ الباردة.
في ضوءِ النماذجِ السويسريّةِ والنمساويّةِ، وحتى الفِنلنديّةِ، الحيادُ مَنفَذٌ دُستوريٌّ إنقاذيٌّ لا خِيارٌ عقائديٌّ. وإذ سياسةُ الحيادِ في هذه الدول أَثبَتَت نَجاحَها عبرَ السنين رُغم تقلّباتِ الزمنِ وتَطوّرِ الأحداث، التجاربُ العمليّةُ أكّدَت أيضًا أنَّ الحيادَ حالةٌ انفتاحيّةٌ تجاهَ الدولِ الأخرى. فعدا الامتناعِ عن التورّطِ العسكريِّ، لعِبت الدولُ المحايِدةُ أدواراً في خِدمةِ الإنسانِ وحَلِّ النِزاعاتِ ومصالحةِ المتصارعين أكثرَ من الدولِ المنحازةِ التي تُسَبِّبُ سياساتُها معظمَ مشاكلِ العالمِ ومآسيه. وفي أيّامِنا هذه، غالباً ما يكونُ التضامنُ السياسيُّ والديبلوماسيُّ والاقتصاديُّ والإعلاميُّ مُفيداً أكثرَ من التَدخّلِ العسكريِّ.
وخِلافاً لما يَتَوهّمُ البعضُ، الدولةُ الحياديّةُ ليست بالضرورةِ ضعيفةً أو مُسْتضعَفة. فالحِيادُ ليس شرطًا حتميًّا تَفرُضه دولةٌ منتَصِرةٌ على أخرى، وليس مُرادِفًا للاستسلام. إنه حالةُ انتصارٍ سلبيٍّ (passif). لو لم يَكُن الحيادُ مناسِباً لسويسرا والنمسا لتَخَلّتا عنه لاحقًا، فلا نابوليون الآنَ يُهدّدُ الأولى، ولا هتلر وستالين يَحتلان الأخيرة. الحيادُ خَيارٌ حرٌّ تَقبَلُه أو تَرفُضه أيُّ دولةٍ منتصرةً كانت أو منهزِمةً. وأساسًا، لا حِيادَ بدونِ سيادةٍ واستقلالٍ وأمنٍ وحرية. وحين تَمتنعُ دولةٌ محايِدةٌ عن القيامِ بأمرٍ ما، فلأنَّ لا مصلحةَ لها فيه وليس لفُقدانِها القرارَ الحرّ. مَن لا يُلقي بنفسِه في النارِ ليس بالضرورةِ إنساناً مُقيَّداً بل هو إنسانٌّ حرٌّ لا يريدُ أن يَحترق. دستورُ الدولةِ المحايِدة يَردَعُ الغرائزَ الداخليّةَ والأطماعَ الخارجيّة، فيُتيحُ للدولةِ أن تشاركَ في حلِّ مشاكلِ الآخرين من دونِ أن يَتدخّلَ الآخرون في شؤونِها ويَخلقوا لها مشاكلَ عَصِيّةَ الحل.
ما أحوجَ لبنانَ إلى مِثلِ هذه الضوابطِ ليستعيدَ استقلالَه الحقيقيَّ ووِحدتَه وقوّتَه. إن جوهرَ نشوءِ دولةِ لبنانَ في الشَرقِ هو مشروعُ دولةٍ حياديّةٍ بفعلِ مُميّزاتِه الخاصة التي تُشكل قوّته وضعفَه في آن معاً. ولو لم تكن الخَلفيّةُ الحياديّةُ موجودةً لدى مؤسّسي هذه الدولةِ لما كانوا أصرّوا على كِيانٍ لبنانيٍّ مستقل. فالكِيانُ اللبنانيُّ سنةَ 1920 هو حالةٌ استقلاليّةٌ قبلَ الاستقلالِ. لبنان موجودٌ، إذن هو مستقلٌ، ولبنان مستقلٌ، إذن هو حيادي.
استناداً إلى كلِّ ما تَقَدّم، يبدو الحيادُ صيغةً مُفصَّلةً على قِياس دولةٍ كلبنان. فالحيادُ يتيح للبنانيّين الغيارى على الآخرين، أنْ يُوَفِّقوا بين العقلِ والقلب، بين المصلحةِ الوطنيّةِ والأهواءِ الفئوية، بين الأمنِ والحرية، بين المشاركةِ والتورّط، بين الانحيازِ والتضامن.
أما تحفظاتُ البعضِ داخلياً وإقليمياً، فالتطوراتُ الآتيةُ في الشرقِ الأوسط الواسعِ تُزيل جُزءاً منها، والإجماعُ الدوليُّ عَبْرَ مؤتمرٍ أُمَميٍّ، يُزيلُ الجزءَ الباقي. إن السيرَ في تحييدِ لبنان هو استكمالٌ طبيعيٌّ للاعترافِ به وطناً نِهائياً وتعويماً إيَّاه "وطنًا رسالة". وما عدا معاندةً قد تؤدّي إلى تفضيلِ تعديلِ الوطنِ على تعديلِ السياسة، لا شيءَ يَمنعُ لبنانَ مِن إن يُنقِذَ نفسَه كما أنقذَت نفسَها شعوبٌ عانَت في تاريخِها ما يُعانيه لبنان. مجموعُ هذه المعطياتِ والمخاوف كانت حاضرةً في ضميرِ البطريركِ بشارة الراعي صبيحة الأحد الماضي (5 تموز) حين دعا الأممَ المتّحدةَ إلى أن تُعلنَ حِيادَ لبنان.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لو ننحازُ إلى الحِياد لو ننحازُ إلى الحِياد



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

GMT 19:27 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الأضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 22:38 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 21:59 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تحمل إليك الأيام المقبلة تأثيرات ثقيلة

GMT 21:46 2020 الأحد ,12 إبريل / نيسان

تستعيد حماستك وتتمتع بسرعة بديهة

GMT 22:02 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 23:42 2018 الخميس ,10 أيار / مايو

"أحد" يعلن تعاقده مع لاعب هارون عيسى

GMT 18:04 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

مواطن يعثر على أمه بعد 43 عامًا

GMT 16:26 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

عرض أولى حلقات الموسم الثاني من برنامج "ذا فويس كيدز" السبت

GMT 23:07 2017 الثلاثاء ,21 شباط / فبراير

بكاء أطفال الجيران اليومي

GMT 16:16 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تطويل الشعر بوقت قياسي قبل زفافك

GMT 08:24 2021 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

إليسا تعيد ارتداء تصميم ظهرت به الملكة رانيا قبل عامين

GMT 15:20 2019 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 10:24 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

دينا تظهر بإطلالة بيضاء عبر "إنستغرام" عقب تعرّضها للانتقاد

GMT 21:20 2018 الخميس ,04 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار فتاة عقب زواجها بـ 10 أيام فقط في منطقة مصر القديمة

GMT 06:50 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

تعرف على أكثر الجسور جاذبية وشهرة حول العالم

GMT 13:22 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

نفوق حيوان بحري من نوع الحوت الأحدب في شاطئ القحمة

GMT 19:43 2018 الأحد ,16 أيلول / سبتمبر

ننشر قصص الإيزيديات بعد هربهن من قبضة "داعش"

GMT 21:28 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

أبل ستكشف عن أحدث هواتف "أيفون" فى 12 سبتمبر
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
Pearl Bldg.4th floor
4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh
Beirut- Lebanon
iraq, iraq, iraq