من بورقيبة… إلى بوتفليقة

من بورقيبة… إلى بوتفليقة

من بورقيبة… إلى بوتفليقة

 العراق اليوم -

من بورقيبة… إلى بوتفليقة

بقلم - خير الله خير الله

إذا كان عبدالعزيز بوتفليقة لا يستطيع لأسباب كثيرة الاستفادة من دروس تجربة بومدين، ما الذي يمنعه من تفادي الوقوع في الفخ الذي أوقع فيه بورقيبة نفسه فانتهى "المجاهد الأكبر" بالطريقة التي انتهى بها.

ما تشهده الجزائر حاليا تعبير عن أزمة عميقة لنظام اعتمد على عبدالعزيز بوتفليقة من أجل إنقاذه
من حقّ رجال الدولة الكبار الذين خدموا في الحقل العام طوال سنوات أن يرتاحوا لدى بلوغهم سنّا معيّنا. الراحة مكافأة لمثل هؤلاء الرجال الذين تجاوزوا الثمانين من العمر والذين أدّوا خدمات كبيرة لبلدهم. دفعت تونس في بداية ثمانينات القرن الماضي ثمنا كبيرا لرفض الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي وضع الأسس لدولة حديثة، الانسحاب من الحكم. أصرّ على الاحتفاظ بالرئاسة بعدما تقدّم به السن، ولم يعد يمتلك كلّ قدراته العقلية والجسدية وصار أسير مجموعة من النساء من أقربائه وعدد من كبار موظفي القصر الجمهوري…

في النهاية، تحتاج الدول الحديثة إلى قادة شباب يتمتعون بالقدرة على العمل الدؤوب ومتابعة كلّ الملفات المهمّة، خصوصا الاقتصادي منها، فضلا بالطبع عن التكيّف مع التغييرات التي تجري في هذا العالم.

بلغ الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الواحد والثمانين من العمر وهو مقعد منذ العام 2013. يشبه وضع بوتفليقة إلى حد كبير وضع بورقيبة في السنوات الخمس وحتّى العشر الأخيرة من حكمه. الأكيد أنّ الرئيس الجزائري لم يفقد كلّ القدرة على التفكير والتركيز مثلما فقد القدرة على الكلام بسلاسة. لكنّ الثابت أنّ الرجل الذي أعاد الأمل إلى الجزائر بعد توليه الرئاسة في العام 1999 لم يستطع النجاح حيث كان مفترضا أن ينجح وأن يحقق إنجازا فعليا. سقط في امتحان نهاية عهده، تماما كما سقط قبله بورقيبة الذي خلعه ثلاثة من كبار الضباط على رأسهم زين العابدين بن علي. أزاح الثلاثة بورقيبة مستندين إلى “أسباب طبّية”. كان ذلك في مثل هذه الأيّام من العام 1987.

كان ضمان انتقال السلطة بطريقة حضارية، استنادا إلى الدستور، المكان الذي يستطيع فيه بوتفليقة تحقيق إنجاز كبير ودخول التاريخ من أبوابه الواسعة. لم يستطع، بكل بساطة، إيصال الجزائر إلى مرحلة التداول السلمي للسلطة بعيدا عن فكرة “الرئيس لمدى الحياة” التي دمّرت السنوات الأخيرة من عهد الحبيب بورقيبة.

كان بلوغ الجزائر مرحلة التداول السلمي للسلطة، بمثابة إنقاذ للبلد واستكمال لما بدأ في العام 1999. بكلام أوضح، كان مفترضا في رجل مثل عبدالعزيز بوتفليقة أن يضع الأسس لتطوير النظام الجزائري من جهة، وإظهار أنّ هذا النظام قادر على تطوير نفسه من جهة أخرى.

لم يكن إعلان جمال ولد عبّاس، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، وهو الحزب الذي بقي طويلا الحزب الحاكم، عن أن لا خيار آخر غير ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة بمثابة مفاجأة. كانت المفاجأة في الإعلان عن تبني ترشيح شخص آخر لموقع رئيس الجمهورية في الانتخابات المتوقعة بعد نحو ستة أشهر.

منذ انتخب رئيسا في 1999، حقّق عبدالعزيز بوتفليقة الكثير للجزائر. كان لجوء المؤسسة العسكرية إليه خيارا موفّقا. استطاع تضميد الجروح، كذلك لعب دورا في تحقيق نوع من المصالحة بعد سنوات عشر عجاف. في عهد بوتفليقة، عاد الأمن والأمان إلى معظم أنحاء الجزائر. كان متوقعا أن يؤسس لمرحلة جديدة بالفعل انطلاقا من التجربة التي مرّ فيها شخصيا بين 1979 و1999. شهدت تلك التجربة اضطراره إلى العيش في المنفى طويلا بعد توجيه اتهامات إليه بارتكاب مخالفات مالية في أثناء توليه موقع وزير الخارجية في عهد هواري بومدين، بين العامين 1965 وأواخر 1978.

 قضى بومدين إثر مرض عضال بعدما أَدخل الجزائر في متاهات كانت في غنى عنها. من بين تلك المتاهات “الثورة الصناعية” و”الثورة الزراعية” و”التعريب” الذي جعل الجزائريين ينسون الفرنسية من دون أن يتعلموا العربية على يد الإخوان المسلمين المصريين أو مدرسين فاشلين من أتباع حزب البعث أو ما شابهه جاؤوا من سوريا والعراق. غابت البديهيات عن رجل مثل بومدين، كان من دون شكّ نظيف الكفّ ووطنيا جزائريا إلى أبعد حدود. كانت مشكلته في أنّه لم يفهم يوما معنى التخلي عن عقد وأوهام كثيرة ورث بوتفليقة قسما لا بأس به منها. أراد بوتفليقة ارتداء ثوب بومدين متجاهلا أنّ كلّ شيء تغيّر في الجزائر، وأن النظام الذي أقامه هواري بومدين كان مقبولا في مرحلة معيّنة. كانت أموال النفط والغاز كافية للتغطية على كل الأخطاء التي ارتكبها حاكم الجزائر بين 1965 و1978، بما في ذلك الاعتقاد أنّ في استطاعته قيادة العالم الثالث. لم يدر في أي وقت أنّه لم يكن سوى أداة استخدمت في اللعبة التي كان الاتحاد السوفياتي يمارسها في أثناء الحرب الباردة…

في كلّ الأحوال، إذا كان بوتفليقة لا يستطيع لأسباب كثيرة الاستفادة من دروس تجربة بومدين، ما الذي يمنعه من تفادي الوقوع في الفخّ الذي أوقع فيه بورقيبة نفسه فانتهى “المجاهد الأكبر” بالطريقة التي انتهى بها، أي أسير بيته في المنستير. إنها عقدة السلطة من جهة، والسقوط في أسر الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس من جهة أخرى. عندما يتقدم الإنسان في العمر لا يعود قادرا على اتخاذ قرارات تتّسم بالحكمة.

كان على بورقيبة الانسحاب من الحلبة السياسية قبل أن يتقدم به العمر وقبل أن يصبح أسير سيدات القصر. كان أسير زوجته الثانية وسيلة بن عمّار التي ما لبث أن طلقها، ثم قريبته سعيدة ساسي. تسبب تقدم بورقيبة في السنّ وفقدانه القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في الانقلاب الذي نفذه زين العابدين بن علي مع رفيقين له أحدهما الحبيب عمار. يبدو بوتفليقة حاليا في وضع شبيه بذلك الذي كان عليه بورقيبة. الفارق أن شقيقه سعيد بوتفليقة حلّ مكان سيدات القصر.

الفارق الآخر أنّ هناك وعيا في القصر الرئاسي الجزائري لإمكان حصول انقلاب عسكري. لذلك شهدت الأسابيع القليلة الماضية تغييرات كبيرة على صعيدي المؤسستين العسكرية والأمنية. يريد بوتفليقة، أو على الأصحّ، أولئك الذين يمسكون بالسلطة وأختام الرئاسة في الجزائر قطع الطريق على العسكر. هذا ما لم يستطع القيام به في 1987 أولئك الذين كانوا يشغلون مواقع مهمّة في تونس مثل محمّد الصيّاح وغيره.

كان على بورقيبة الانسحاب باكرا في وقت كان يمتلك كلّ وعيه وقدراته العقلية والجسدية، وألا يترك عقدة السلطة تتحكّم به. كان على بوتفليقة أن يفعل ذلك أيضا. صار هناك ما يجمع بين الرجلين على الرغم من الفارق الكبير بين شخصيتيهما. بورقيبة كان زعيما حقيقيا ولم يصعد في ظلّ أحد كما الحال مع بوتفليقة الذي اعتبر نفسه دائما الخليفة الشرعي لهواري بومدين. هذا لا يمنع الاعتراف بأنّ ما تشهده الجزائر حاليا تعبير عن أزمة عميقة لنظام اعتمد على عبدالعزيز بوتفليقة من أجل إنقاذه. إذا بعبدالعزيز بوتفليقة يعمل كلّ شيء من أجل ألا تقوم للنظام قيامة في يوم من الأيّام…

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من بورقيبة… إلى بوتفليقة من بورقيبة… إلى بوتفليقة



GMT 08:31 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

موازين القوى والمأساة الفلسطينية

GMT 08:29 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

ترامب يدّعي نجاحاً لم يحصل

GMT 08:24 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

فلسطين وإسرائيل بين دبلوماسيتين!

GMT 08:23 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

أزمة الثورة الإيرانية

GMT 01:25 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار متجددة وراقية لديكورات مداخل حفلات الزفاف

GMT 02:14 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة سيريفوس في سيكلاديز من أفضل جزر اليونان

GMT 21:26 2019 السبت ,10 آب / أغسطس

تعرفي علي مكونتات أغلى عطر في العالم

GMT 21:13 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

ناصر الخليفي يضع زين الدين زيدان على رأس قائمة المدربين

GMT 00:38 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

منال سلامة تقدم شخصية شريرة في " عائلة الحاج نعمان "

GMT 19:46 2019 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ختام النسخة 11 لمهرجان منصور بن زايد للخيول العربية الأصيلة

GMT 09:36 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

شركة هيونداي تعلن طرح سوناتا 2018 بمواصفات مذهلة

GMT 02:53 2017 الثلاثاء ,04 تموز / يوليو

العلماء يخترعون ستائر تخزن الطاقة الشمسية

GMT 13:43 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

"Jacquemus" تكشف عن حقائب صغيرة ليس كالتي نتخيلها

GMT 15:15 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

تدريبات خاصة للاعبي يد النادي الأهلي المصري الدوليين

GMT 21:42 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة إعداد كرات الشوكولاتة بجوز الهند والشوفان

GMT 20:06 2016 الأربعاء ,22 حزيران / يونيو

لاعب "الريان" القطري حامد اسماعيل يتعرَّض لحادث سير

GMT 11:12 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

المصمم نجا سعادة من عالم الطبّ إلى تصميم الأزياء
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq