استحالة الإمبراطوريات في زمننا

استحالة الإمبراطوريات في زمننا!

استحالة الإمبراطوريات في زمننا!

 العراق اليوم -

استحالة الإمبراطوريات في زمننا

حازم صاغية
بقلم : حازم صاغية

شكلت الحرب العالمية الأولى، بمعنى ما، انتصاراً للدولة - الأمة على الإمبراطورية. ثلاث إمبراطوريات انهارت نتيجة لتلك الحرب وتفتتت إلى دول: إمبراطورية الهبسبورغيين النمساوية - الهنغارية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية القيصرية الروسية. الثالثة وحدها أعيد إنتاجها في قالب بلشفي، ثم مع الحرب العالمية الثانية استطاعت أن تتوسع إلى أوروبا الوسطى والشرقية. حسابها المتأخر جاء في أواخر ثمانينات القرن الماضي حين انهارت هي أيضاً. في هذه الغضون، ونتيجة للحرب العالمية الثانية، قضي على المحاولات الإمبراطورية الفاشية الثلاث لألمانيا وإيطاليا واليابان. كذلك جاء نزع الاستعمار من آسيا وأفريقيا ليعمم صيغة الدولة - الأمة. انهيار الإمبراطورية السوفياتية اللاحق زاد تلك الصيغة تعميماً بانضمام بلدان أوروبية وآسيوية بعضها جديد وبعضها قديم - جديد، بعضها جزء عضوي من الإمبراطورية وبعضها مُلحق بها وشكلي الاستقلال عنها.

هناك إذن ما يكفي من الحجج للقول إننا نعيش في زمن الدولة - الأمة. هذا لا يعني أن سكان المعمورة أجمعوا كلهم على مباركة الصيغة الجديدة. في منطقتنا مثلاً، ترافقت الدولة - الأمة مع الحضور الاستعماري الغربي، مما أنعش رفضها وعزز لدى بعضنا حنيناً إلى «ماضٍ مجيد» كنا خلاله «موحدين» و«أقوياء».

النظام الناصري بوصوله إلى سوريا في 1958 كان التعبير الأول، من منصة رسمية، عن ذاك الحنين وتلك الرغبة. ثمة من استعاد تاريخاً قريباً نسبياً رمزُه إبراهيم باشا، ابن محمد علي. ثمة من لوّح بتاريخ أبعد رمزُه صلاح الدين الأيوبي. الحكمة كانت تقول إن الذهاب إلى الأمس ممر إجباري للوصول إلى الغد.

في الحالات جميعاً، وبعد وحدة مصر وسوريا، هدد جمال عبد الناصر الوضع القائم في معظم البلدان العربية، خصوصاً العراق والأردن ولبنان. في 1962، بدأ يرسل ما بلغ مجموعه 55 ألف جندي إلى اليمن دعماً لانقلاب عبد الله السلال. حرب اليمن ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية عربية واستنزفت الاقتصاد المصري. لاحقاً سُميت «فيتنام مصر». أخطر من ذلك كان دور تلك الحرب في تسهيل هزيمة 1967 المُذلة على أيدي الإسرائيليين.

بسببها سقط المشروع الإمبراطوري المصري في هوة سحيقة. محمد حسنين هيكل، في محاولته تخفيف حجم الكارثة، سماها «نكسة»، لكن سواه، بمن فيهم بعض من ربطتهم صلة ما بالنظام، راحوا يتساءلون عن مصدر الخطأ الهائل الذي أفضى إليها: العائلة، التعليم، الدين، النظام السياسي، التركيب الطبقي...، لم يبقَ شيء خارج التساؤل والتشكيك. توفيق الحكيم، في «عودة الوعي»، قال بلغته إن المصدر زعامة عبد الناصر وطموحه الإمبراطوري. هذان خدرا الوعي وعطلاه.

بكلمات أخرى، تبدى فجأة أننا لا نملك شيئاً. وعود عبد الناصر المضخمة لم تلد إلا الهواء الساخن. صواريخ «الظافر» و«القاهر»، التي كانت تُستعرض في المناسبات الوطنية بوصفها قاطرتنا إلى القدس، تكشفت عن حديد وخشب. رفيق عبد الناصر وصديقه أنور السادات، ما إن حل محله إثر وفاته في 1970، حتى باشر الانقلاب على سياساته كلها، الداخلية والخارجية والاقتصادية سواء بسواء. عتاة الناصريين زُجوا في السجن. الجماهير الناصرية العريضة تقلصت إلى تنظيمات هامشية تحاول تخليد اسم «المعلم». لم يبقَ من المشروع الإمبراطوري إلا حطامه.

لماذا تستعاد هذه التجربة اليوم؟ الجواب السهل والمباشر: بسبب المشروع الإمبراطوري الإيراني. ذاك أن طهران، التي تمددت، على نحو أو آخر، إلى سبعة بلدان عربية، وأبدى بعض رسمييها الرغبة الصريحة في ربط هذه البلدان بها، تجافي الوجهة التاريخية الموصوفة أعلاه. إنها لم تتعلم شيئاً من تجربة عبد الناصر.

شيء واحد مشترك بين التجربتين هو: الذريعة. فمصر الناصرية وإيران الخمينية استخدمتا الإعلان عن معاداة إسرائيل حجة لتبرير التمدد، هذا علماً بأن الأولى تمتاز على الثانية بنقاط قوة مؤثرة ثلاث: أنها عربية اللغة، مثلها مثل باقي سكان المنطقة، وأنها على نفس المذهب الديني الذي تدين به غالبية السكان، وأخيراً، أنها ورثت بعض النتائج المباشرة لحرب 1948 التي شاركت فيها إبان عهدها الملكي، لا سيما قطاع غزة.

اليوم، يستمد المشروع الإمبراطوري لإيران معظم قوته من اضطراب كوننا، ومن أن نظام الدول - الأمم، ومعه الديمقراطية، يعاني أزمة عميقة لم يعرفها منذ تسعين عاماً. صعود الشعبويات القومية وتراجع الإدراك لوحدة العالم ينعشان المشروع الإمبراطوري لإيران. هذا لا يعني أن الإمبراطورية ستحل، في آخر المطاف، محل الدول القائمة. هي قد تحرز انتصاراً هنا وانتصاراً هناك، وهو ما لا يستهان بتأثيراته. لكن القدرة على تفتيت الواقع الراهن شيء والقدرة على بناء واقع بديل شيء آخر. وعملاً بالمقارنة أعلاه، لا بأس بالتذكير بأن عبد الناصر حظي، قبل ستين عاماً، بعبادة جماهيرية لا يحلم بربعها قادة إيران. لقد كان بخطاب من خطبه، وببرنامج من برامج «صوت العرب»، يهز بلداناً وأنظمة. لكنْ ما هي إلا سنوات قليلة حتى انتفض السوريون الذين كانوا يحملون سيارته على الأكف في دمشق وحلب، ثم بعد سنوات أخرى رأيناه هو نفسه يقدم استقالته ويتعهد «العودة إلى صفوف الجماهير». هذا، على الأقل، ما قاله ولم ينفذه.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استحالة الإمبراطوريات في زمننا استحالة الإمبراطوريات في زمننا



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

GMT 01:25 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار متجددة وراقية لديكورات مداخل حفلات الزفاف

GMT 02:14 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة سيريفوس في سيكلاديز من أفضل جزر اليونان

GMT 21:26 2019 السبت ,10 آب / أغسطس

تعرفي علي مكونتات أغلى عطر في العالم

GMT 21:13 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

ناصر الخليفي يضع زين الدين زيدان على رأس قائمة المدربين

GMT 00:38 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

منال سلامة تقدم شخصية شريرة في " عائلة الحاج نعمان "

GMT 19:46 2019 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ختام النسخة 11 لمهرجان منصور بن زايد للخيول العربية الأصيلة

GMT 09:36 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

شركة هيونداي تعلن طرح سوناتا 2018 بمواصفات مذهلة

GMT 02:53 2017 الثلاثاء ,04 تموز / يوليو

العلماء يخترعون ستائر تخزن الطاقة الشمسية

GMT 13:43 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

"Jacquemus" تكشف عن حقائب صغيرة ليس كالتي نتخيلها

GMT 15:15 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

تدريبات خاصة للاعبي يد النادي الأهلي المصري الدوليين

GMT 21:42 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة إعداد كرات الشوكولاتة بجوز الهند والشوفان

GMT 20:06 2016 الأربعاء ,22 حزيران / يونيو

لاعب "الريان" القطري حامد اسماعيل يتعرَّض لحادث سير

GMT 11:12 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

المصمم نجا سعادة من عالم الطبّ إلى تصميم الأزياء

GMT 02:42 2019 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

"سكيت غزة" رياضة جديدة لهواة التزلج في فلسطين

GMT 20:12 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

هيفاء وهبي تعتزل العمل الفني!

GMT 04:02 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

قرد يمتلك عضلات لاعب "كمال أجسام" في فنلندا

GMT 15:23 2019 السبت ,26 كانون الثاني / يناير

متوسط الأجر يفوق 40 ألف دينار في الجزائر خلال عام 2017
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq