لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ

لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ...

لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ...

 العراق اليوم -

لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ

حازم صاغية
بقلم : حازم صاغية

في الأسابيع الثلاثة الماضية هزّ لبنان حدث تاريخيّ، ولا يزال: قطاعات عريضة من السكّان، لا سيّما منهم الشبيبة والنساء، تعلن العزم على بناء مشروع تأسيسيّ للوطن وتباشر ذاك البناء. المشروع هذا ينقل موضع التركيز من الطائفيّة والطوائف إلى عناوين أخرى قد يكون أهمّها:

أوّلاً، إعادة النظر في النظام الاقتصاديّ وطرق توزيع الثروة على نحو يعزّز الإنتاج والقطاعات المنتجة ويكافح الهدر والنهب والفساد، عاملاً بالنتيجة على كسر محوريّة المصرف وخلق فرص العمل لطالبيها الكثيرين والمتكاثرين، وعلى وقف هجرة الشبيبة...

ثانياً، تحديث النظام السياسيّ ودمقرطته بما يفتح الباب أمام تجديد النُّخب وتوسيع رقعة المستفيدين من العمليّة الديمقراطيّة. هذا ما يمرّ حكماً بقانون انتخابيّ لا يكرّس تمثيل الطوائف، لكنّه أيضاً لا ينحصر فيه (مثلاً: التصويت حيث الإقامة والعمل ودفع الضرائب، لا في مسقط الرأس). وقد يكون الأهمّ الآن، وراهناً، استقلال القضاء الذي يتيح إحقاق الحقّ بعيداً عن ثأريّة العنف، وعن التراكيب السياسيّة الاستبداديّة التي تنجم عن انفلات تلك الثأريّة.

مسألة القضاء لم تحتلّ في التاريخ اللبنانيّ الحديث كلّه الموقع الذي باتت تحتلّه اليوم.

ثالثاً، إدخال تعديلات أساسيّة على نظام القيم اعترافاً بتطلّعات الفئات الشابّة وبتصوّراتها الثقافيّة، خصوصاً لجهة المساواة على سائر مستوياتها، الجندريّة والجيليّة والمناطقيّة، فضلاً عن إشاعة وعي مغاير فيما خصّ العنصريّة حيال اللاجئ والنازح والعمّال الأجانب.

الدور المركزيّ للشبيبة التي لم تعش أزمنة الحروب، لكنّها ورثت نتائجها، هو ما لا يُمارى فيه اليوم. معرفتها بالعالم الخارجيّ من خلال الوسائط المتاحة جعلتها أشدّ احتقاراً للتراكيب الطائفيّة والزبونيّة السائدة في لبنان. بدورها، عملت تفاهة الرموز السياسيّين على تعزيز الفارق النوعي بين المتسبّبين بالكوارث والواعدين بحلّها. هذا ما كمّل التطابق بين انسداد الأفق أمام الشبيبة وانسداد الأفق أمام الوطن.

أمّا إصرار الثوّار على السلميّة، وكونهم أقلّ أدلجةً بالقياس إلى جميع الأجيال المهزومة التي سبقتهم، واختيارهم لغةً خالية من المحسّنات والفصاحات، تذهب مباشرة إلى جوهر الموضوع، فكلّها سماتٌ تُحسب لهم. بهذه المواصفات، وبهمّة لا تتعب، سيّس الشبّان مجتمعهم وشرّعوه على نقاش دائم يراجع كلّ شيء، كما وضعوا السياسيّين التقليديّين في قفص الاتّهام والدفاع عن النفس.

الثورة تجاوزت عوائق كثيرة (عدّدها الزميل حسام عيتاني في مقال نشرته هذه الجريدة يوم الخميس الماضي). لكنّ العائق الأكبر يشبه لغماً تزرعه القوى الطائفيّة في الثورة. ذاك أنّ المشروع الكبير هذا لا يستطيع النموّ، ناهيك بالنجاح، ما لم يتوزّع الخارجون عن طوائفهم على الطوائف جميعاً. فالخروج الانتقائيّ، طوعيّاً كان أم مفروضاً، هو اللغم الخطير. إنّه يمنع العبور إلى مواضع التركيز الجديدة.

بلغة أخرى: إنّ مقتل هذا المشروع العظيم هو النكوص إلى اصطفاف 8 و14 آذار أو ما يشبهه لجهة الانقسام إلى شارعين، أي إلى طائفتين أو تحالفين طائفيّين. هذا ما تجنّبته الثورة، ليس فقط بفعل أولويّة الهمّ الاقتصاديّ - الاجتماعيّ لديها، بل أيضاً لأنّ قادة 8 و14 آذار هم أوّل المشمولين بغضبها. ساعد على التجنّب أنّ كتلاً شعبيّة من سائر الطوائف والمناطق حضرت بقوّة في الساحة.

مَن زرع اللغم في المشروع الوطنيّ هذا، بالنيابة عن جميع القوى الطائفيّة، هو «حزب الله». لقد حال دون مشاركة طائفة كبرى عبر تأثيرات امتدّت من الآيديولوجيا إلى العنف. المقدّس استُحضر بقوّة فيما وقف المسلّح وراءه. ثورة العراق «الشيعيّة» وحصار إيران كانا سبباً آخر يلحّ على اعتماد هذا العلاج المركّب.

لقد تبدّى، بعد ما حصل في النبطيّة وكفر رمّان وصور وبنت جبيل وعلى جسر الرينغ، أنّ في وسع الثورة أن تحيّد سلاح «حزب الله»، وهو ما تستدعيه أيّ واقعيّة سياسيّة في بلد كلبنان، لكنْ تبدّى، في المقابل، أنّ سلاح «حزب الله» لا يستطيع أن يحيّد الثورة. ذاك أنّ الأخيرة أخذت، وفق الحزب، شكل كرة الثلج التي ينبغي ألاّ تتدحرج وتكبر. والحزب أخصّائيّ في الالتفاف على تحوّلات تغيّر موضع التركيز: في 2005 ارتفعت أجندة الاستقلال الوطنيّ ورفع يد الأجهزة الأمنيّة. في 2006 خُطف الجنديّان الإسرائيليّان وكانت حرب تمّوز.

التيّار العونيّ لم يستطع فعل الشيء نفسه مع طائفته المسيحيّة. بدا رثّاً، لا يملك ما يقايض به جماهيره. مظاهرة بعبدا دعماً للرئيس عون كانت حدّه الأقصى، وهي أقلّ من الحدّ الأدنى المطلوب لتفكيك الثورة وفصمها إلى شارعين.

«حزب الله» إذن هو الذي تولّى المهمّة: أخرج الكتلة الشيعيّة، وأعطى لفئات متردّدة في الكتل الطائفيّة الأخرى ذريعتها كي تعزّز تردّدها: لماذا نتبعثر بينما هم يتجمّعون؟!

هذا اللغم قد ينفجر بعنف أو من دون عنف، وبانهيار اقتصاديّ أو من دونه. عندها يغدو قتل المشروع الوطنيّ معادلاً لمشروع قتل الوطن نفسه عبر تعفينه لعشرات السنين في ظلّ هذا النظام.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ لُغم في المشروع الوطنيّ اللبنانيّ



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

GMT 01:25 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار متجددة وراقية لديكورات مداخل حفلات الزفاف

GMT 02:14 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة سيريفوس في سيكلاديز من أفضل جزر اليونان

GMT 21:26 2019 السبت ,10 آب / أغسطس

تعرفي علي مكونتات أغلى عطر في العالم

GMT 21:13 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

ناصر الخليفي يضع زين الدين زيدان على رأس قائمة المدربين

GMT 00:38 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

منال سلامة تقدم شخصية شريرة في " عائلة الحاج نعمان "

GMT 19:46 2019 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ختام النسخة 11 لمهرجان منصور بن زايد للخيول العربية الأصيلة

GMT 09:36 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

شركة هيونداي تعلن طرح سوناتا 2018 بمواصفات مذهلة

GMT 02:53 2017 الثلاثاء ,04 تموز / يوليو

العلماء يخترعون ستائر تخزن الطاقة الشمسية

GMT 13:43 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

"Jacquemus" تكشف عن حقائب صغيرة ليس كالتي نتخيلها

GMT 15:15 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

تدريبات خاصة للاعبي يد النادي الأهلي المصري الدوليين

GMT 21:42 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة إعداد كرات الشوكولاتة بجوز الهند والشوفان

GMT 20:06 2016 الأربعاء ,22 حزيران / يونيو

لاعب "الريان" القطري حامد اسماعيل يتعرَّض لحادث سير

GMT 11:12 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

المصمم نجا سعادة من عالم الطبّ إلى تصميم الأزياء

GMT 02:42 2019 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

"سكيت غزة" رياضة جديدة لهواة التزلج في فلسطين

GMT 20:12 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

هيفاء وهبي تعتزل العمل الفني!

GMT 04:02 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

قرد يمتلك عضلات لاعب "كمال أجسام" في فنلندا

GMT 15:23 2019 السبت ,26 كانون الثاني / يناير

متوسط الأجر يفوق 40 ألف دينار في الجزائر خلال عام 2017
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq