دور هبرّودس ان يهرب

دور. هبرّودس ان يهرب

دور. هبرّودس ان يهرب

 العراق اليوم -

دور هبرّودس ان يهرب

سجعان القزّي
بقلم : سجعان القزّي

ولادةُ يسوع هي شكلٌ من أشكالِ ظهورِه على البشريّة. يسوعُ موجودٌ بينَنا قبلَ ولادتِه وأثناءَها وبعدَها. كان اسمُه الله. لكنّه شاءَ الانتقالَ موقّتًا من السرمديّةِ إلى الزمانِ والمكان من أجلِ أن يَنقلَ الإنسانَ من محدوديّةِ الوجودِ إلى السرمدية، ومن أجلِ أنْ يُنشِئَ علاقةً "ميثاقيّةً" بين الله ابنِ الإنسان، والإنسانِ ابنِ الله. لم يَرُدّ الإنسانُ، بما فيه الإنسانُ المسيحيُّ، الجَميلَ إلى يسوع. ظنَّت البشريّةُ أنَّ تَقدّمَ مفاهيمِ الحرّيةِ والمساواةِ والأُخوّةِ وحقوقِ الإنسانِ، يعود فَضلُها إلى فلاسفةِ الإغريق والرومانِ وكونفُوشيوس، وإلى فلاسفةِ "عصرِ الأنوار" والثورةِ الفرنسيّةِ والاشتراكيّةِ والعَلمنة، فيما وَردَت جميعُ هذه المفاهيمِ في تعاليمِ يسوع ونَشرَتْها المسيحيّةُ في العالم.
جميعُ الحركاتِ الدينيّةِ والعقائديّةِ التي ظَهَرت بعد المسيحيّةِ ـــ بما فيها الشيوعيّةُ ـــ تأثّرت بهذه التعاليم. فمِنها مَن استوحاها، ومنها مَن اقتَبسَها ومنها مَن تَفلْسَف عليها، ومنها مَن تَكبَّرَ عليها. كأنّي بيسوع يقول لهم: "ما لم تَفهَموه لا تُنكِروه، إنّما فسّروه على طريقتِكم"؛ فكان تَعدُّدُ الأديانِ والطوائفِ والمذاهب، حتّى في المسيحيّة. خَشِيَ يسوعُ العقلَ المنعزِلَ عن الإيمان. فَضّل الإيمانَ على الحكمةِ ووَصَف الحكماءَ بالحيّات.
الّذين يتَّبِعون الضميرَ دون الإيمانِ يعيشون أيضًا سلامًا داخليًّا ويَتمتَّعون بقيمٍ ساميّةٍ، إنسانيّةٍ واجتماعيّة. لكنَّ الضميرَ الذي يَعتبر ذاتيّتَه مرجِعيّةً قائمةً بذاتِها ومستقلَّةً عن الإيمانِ بالله، يَبقى عُرضةً لجنوحِ الغريزةِ لأنَّ دفاعاتَ الضمير، المرتكزةَ على العقلِ فقط، ليست كافيةً لمنعِ السقوطِ في التجارب. صحيحٌ أنَّ التاريخَ الوسيطَ والحديثَ حافِلٌ بقادةٍ مسيحيّين انحرَفوا نحو سلوكٍ وحشيٍّ ووثنيٍّ، لكنَّ هؤلاء، وإنْ وُلِدوا مسيحيّين، فقدْ خَرجوا عن الإيمانِ والتزموا عقائدَ فلسفيّةً وسياسيّةً ضِدَّ المسيحيّة. غير أنَّ يوميّاتِنا تَكشِف أنَّ المتدَيّنين ينافِسون الملحِدين في الشرودِ والفساد والطيْش، أي في الخطيئة، وهي التسميةُ الدينيّةُ، لـجِـنَحِ الإنسانِ وجِناياتِه، أكان فردًا أو جماعةً. أيعني هذا أنَّ الغريزةَ والعقلَ أقوى من الإيمان؟ وأن الإنسانَ يُعطي الإيمانَ لله والـمُشْتهى للدنيا؟ في الإنسانِ شرٌّ يَتحدّى الخيرَ ويُبارزُه. تارةً يَنتصر الأوّلُ وطورًا يَغدُر به الآخَر. آخِرُ تَجليّاتِ "انتصارات" الشرِّ اغتيالُ الشابِ جو بجّاني في الكحالة، بلدةِ العزّةِ والكرامة. وآخِرُ تجلّياتِ انتصارات الخيرِ اختراعُ اللَقاح ضِدَّ جائحةِ كورونا.
لقد اختبر المسيحُ ضعفَ الإنسان في تلاميذِه أوّلًا: مِن بطرس الذي "سَلّمه مفاتيحَ السماء" فأنْكَره ثلاثَ مرّات، إلى يَهوذا الذي سَلّمه إلى اليهود، مرورًا بِتُوما الذي آمَن بإصْبَعِه قبل إيمانِه بقيامةِ المسيح. واستنادًا إلى إدراكِه هذا الضعفَ البشريّ، استَحْدَث يسوعُ الغفرانَ ومحوَ الخطيئةِ والرحمةَ والتسامح، فتمادى الإنسانُ في الدلعِ واستهانَ ارتكابَ الخطايا على وعدٍ بالعفو.
خطورةُ الحضارةِ الحاليّةِ أنها مُغريةٌ جدًّا بحيثُ يَصعُب على المرءِ التعَفُّفُ عنها والنأي. لكنّها في الحقيقةِ تَخلُط بين الحرّيةِ وفوضى القيَم، بين الرَفاه والترَف، بين الإيمانِ والفكرِ، وبين البشريّةِ الطبيعيةِ والطبيعةِ المضادّة. والأخطرُ أنَّ العَلمنةَ المجرَّدةَ من أيِّ سَندٍ روحيِّ تَضرِبُ ضميرَ الفردِ وإنْ حافظَت على ضميرِ الجماعة. لا يدري بعضُنا إذا كان مؤمنًا أو عَلمانيًّا، وإذا كان عَلمانيًّا أو ملحدًا. كان الإلحادُ في العصورِ القديمةِ حالةَ جهلٍ، فجَعله البعضُ في العصرِ الحديث حالةً عقائديّةً تدّعي أنَّ الإنسانَ هو مُحَصِّلةُ حركةِ المادّة وإفرازاتِها. أنّى لمادّةٍ جامِدةٍ، تُحرّكها عواملُ الجيولوجيا والطقسِ والزمن، أنْ تَخلُقَ الإنسانَ بحياتِه وعقلِه وضميرِه وقلبِه وإبداعاتِه؟ لم نَر صخرةً اشتَهَت موجةَ بحرٍ فأنجبَت إنسانًا. ولم نَر جبلًا تغزّلَ بِواديه فوضعَ مولودًا.
رغمُ مرور ألفَي سنةٍ على ولادةِ يسوع، أشعُر كلَّ سنةٍ بفرحِ هذا الحدثِ الإلهيِّ والتاريخيِّ. أتخيّلُه يَحدُث أمامي الآن. أشعُر أنَّ قوّةً دخلت فيَّ. أعيشُ وَضاعةَ المغارةِ وعظمةَ المولود. أعودُ إلى الوراء. أرى أورشليم والناصرةَ والجليلَ والقيصريّة. أُبصِرُ بُحيرةَ طَبريّا ونهرَ الأردن وبيتَ عَنْيا وجبلَ طابور وبستانَ الجِسمانيّة. أُحَدِّقُ ببيلاطس يَغسِلُ يديْه وبقَيافا، رئيسِ كُهّانِ اليهود، يَصرُخُ: "اصْلُبوه". حَدثَ ذلك في جوارِ لبنان. في قريةِ بيتَ لحم. في الشرق. لكنَّ الشرقَ حاول التَنمُّرَ على المسيحيّة. سقطَ في التجربةِ اليهوديّةِ التي هي إنكارُ المسيح. من هنا بَدأت جُلْجُلةُ الشرق. تَقدَّمَ في الزمنِ وتراجعَ في الحضارة. احتلَّ العالمَ عصورًا ولم يُحرِّر نفسَه يومًا. آمَنَ بالكتابِ ولم يَكتفِ به. حاربَ الصليبَ فأتاه الصليبيّون، وها هو على شفيرِ تكرارِ الخطأ.
الشرقُ نقيضُ ذاتِه وراجمُ عظمائِه وفاقدُ قيمِه وجاحِدُ أديانِه. ما عاد هذا الشرقُ يُشبِهُ المسيح. كأنَّ ولادةَ يسوع كانت فعلًا زائدًا، وصلبَه فعلًا مجّانيًّا وقيامتَه فعلًا عبثيًّا. اليهودُ تآمروا على يسوع لدى ولادتِه. أنْكَروه وصلبوه. وأهلُ الشرقِ تآمروا عليه بعد قيامتِه. ظنّوا أنّهم يستطيعون أن يُضيفوا إلى الكَمالِ جملة، فتغيّر المعنى. أهلُ الشرقِ يَخافون مُنقِذيهم ويُحبّون جَلّاديهم. أهلُ الشرقِ يَخشَوْن الحقيقة ويَألَفون الدَجَل. تَشاوَفوا على المسيحيّةِ وشوّهوا الإسلامَ وأعادوا الاعتبارَ إلى اليهوديّةِ، حتّى بوجهِها الصُهيوني. أكثرُ كلمةٍ تَروجُ في الشرقِ هي الله، وأقلُّ حاضرٍ في أفعال الشرقِ هو الله. جَعلوا اللهَ افتتاحيّةَ مجازرِهم وإرهابِهم عِوضَ أن يكونَ مُـحَـيّا فضائِلهم وسلامِهم. كانوا في الأديانِ الوثنيّةِ وأمْسوا في وثنيّةِ الأديان.
مع ولادةِ يسوع لا تولدُ المسيحيّةُ في الشرقِ فقط، بل فكرةُ التعايشِ بين أهلِ الشرق. لكنَّ التعايشَ مستحيلٌ من دونِ الاعترافِ بحقِّ الآخَر لا بوجودِه فحسب. فإذا كان العقلُ من دونِ إيمانٍ يَحرِفُ الإنسان، الإيمانُ مع السلاحِ يَحرِفُ الدين. جميعُ أسلحةِ الأديانِ تحوّلت ضِدَّ الأديان وشعوبِها. القضيةُ مسألةُ وقت. لهذا السببِ نحن صامدون، ولن نَدعَ يوسف، هذه المرّةَ، "يأخُذُ الصبيَّ إلى مِصر". هذا دورُ هيرَوْدُس، بل "الهيرَوْدُسيّون"، أنْ يهربوا.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دور هبرّودس ان يهرب دور هبرّودس ان يهرب



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

GMT 21:09 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 17:33 2019 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

تتحدى من يشكك فيك وتذهب بعيداً في إنجازاتك

GMT 13:45 2021 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

أبرز صيحات موضة بدلات ملونة بستايل عصري وجديد

GMT 13:25 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

مجموعة من مجوهرات عروس فخمة من وحي أهم النجمات

GMT 01:30 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

مايكروسوفت تجعل متصفح Edge أسرع وأكثر عملية

GMT 13:00 2019 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

طريقة إعداد حلوى "تشيز كيك اللوتس" الشهية

GMT 19:38 2017 الإثنين ,30 تشرين الأول / أكتوبر

واتساب تعلن عن خاصية مشاركة المكان بشكل مباشر

GMT 22:26 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

الشباب يواصل تدريباته على ملعب الأمير خالد بن سلطان

GMT 19:36 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

تحذير أممي من تعرض اليمن لأكبر مجاعة يشهدها العالم

GMT 01:22 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

صيحات مميّزة للحقائب باللون الأبيض لصيف 2018

GMT 21:44 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

زياد نكد يطبع بصمة ملفتة في عالم هوت كوتور

GMT 13:51 2021 السبت ,02 كانون الثاني / يناير

توقعات ماغي فرح للأبراج في عام 2021

GMT 00:20 2019 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

كردستان تحتضن معسكر المنتخب العراقي لكرة السلة

GMT 20:57 2019 الثلاثاء ,16 تموز / يوليو

"شانيل" تطلق مجموعة مجوهرات راقية جديدة

GMT 05:34 2019 السبت ,06 إبريل / نيسان

طحنون بن محمد يعزي بوفاة سيف عبيد المنصوري
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq